غزة 2-7-2025 وفا- محمد دهمان
لم تعد "الدقة" الغزاوية وجبة جانبية، أو طقسا من طقوس الإفطار الصباحي في غزة، بل وجبة فرضت نفسها قسريا على موائد النازحين والجائعين في قطاع غزة، الذين فتك بهم العدوان الإسرائيلي، والغلاء.
ارتبطت "الدقة" على مدى عقود بالمطبخ الشعبي، واعتُبرت من مكونات الهوية الثقافية الفلسطينية، ويُرجع البعض أصولها إلى مدن الساحل مثل يافا، عكا، حيفا، أو المجدل، لكن انتشارها وتمركز صناعتها في غزة بعد النكبة، جعل منها جزءًا لا يتجزأ من تراث القطاع.
وفي مدن تحاصر بالموت والغلاء، أصبحت "الدقة" الملاذ الأخير للجائعين في غزة، لتتحول هذه الوجبة التراثية بفعل المجاعة وانعدام البدائل إلى رمزٍ للصمود وللفقر.
يروي المواطن فلاح علوش (72 عاما)، أن والده عبد الرزاق، هو من أسس أول مطحنة دقة في غزة، عام 1949، في خيمة صغيرة على شاطئ بحر غزة، بعد تهجيره من يافا إثر نكبة 1948، وكان يبيع الدقة والزعتر والقهوة، ثم استقر في معسكر الشاطئ بجوار صيدلية طالب، لتكون هناك المطحنة الأولى.
وفي عام 1987، توسع هذا المشروع العائلي، وتم افتتاح فرع جديد في حي الشيخ رضوان، وما زال العمل فيها قائما حتى اليوم رغم الظروف.
يقول: "الدقة الأصلية كانت تُصنع من القمح المحمص، ونبتة الجرادة الناشفة "الشبت"، والكمون، والكزبرة، والشطة، والسماق، والملح، وتُطحن جميع المكونات بشكل ناعم. أما اليوم، فبسبب انعدام المواد الأساسية، نضطر لاستخدام بدائل مثل العدس، أو الفاصولياء، أو البرغل والمعكرونة، ما أحدث تغييرا سلبيا على نكهتها، لكنها تبقى الخيار الأقل سعرا للناس".
وعن الأسعار، يشير علوش إلى التحول الكبير: "قبل العدوان، كان كيلو الدقة يُباع بـ 12 شيقلا، أما اليوم فقد تجاوز سعره 140 شيقلا، رغم أن مكوناته تغيّرت، وأصبح الكثير منها مصنوعا من بقوليات بديلة".
ورغم تراجع جودة الدقة، إلا أن الحاجة إليها تجعل المواطنين لا يفكرون في طعمها كثير، بل كيف يسدون رمق جوعهم.
يقول رمزي شاهين، ربّ أسرة نازحة مكوّنة من زوجته وثلاثة أبناء (بنتين وولد)، في حديث لـ"وفا": "لجأنا إلى الدقة لأنها أصبحت الشيء الوحيد المتوفر في متناول الجميع، في ظل الغلاء الفاحش. قبل العدوان، كانت وقية الدقة تبقى في البيت لأشهر، ولا يُسأل عنها إلا مع الإفطار أو العشاء، أما اليوم، فهي وجبتنا الأساسية، نحضّرها كمناقيش بزيت نباتي عوضا عن زيت الزيتون حتى لا نملّ منها، ونطحنها من العدس أو المعكرونة أو البرغل أو الفريكة، لكنها لم تعد تشبه دقة القمح، حتى الزعتر وزيت الزيتون صارا ترفًا لا نستطيع شراءهما".
بسمة يوسف، أم لأربعة أطفال، تصف الحال ببساطة مؤلمة: "الدقة أصبحت رفيقتنا القسرية، نشتريها لأنها الخيار الوحيد، أما الزعتر فقد اختفى، والدتي أصيبت بتقرحات في المعدة وتعاني بشكل يومي بسبب كثرة تناولها وعدم وجود علاج، والأطفال يتذمرون من أكلها يوميًا، لكننا لا نمتلك رفاهية الاختيار. الدقة اليوم تُصنع من البقوليات، وكثرة استهلاكها تدمّر صحتنا".
المأساة لا تقتصر على الطعم أو الفقر، بل تمتد لتشمل الأضرار الصحية. يحذر خبير التغذية والتثقيف الصحي هشام حسونة، من الاعتماد المفرط على هذه الوجبة.
ويقول "الإفراط في تناول الدقة الأصلية مضر أصلاً، ويزداد الضرر في هذه الأيام. لأنها تؤدي إلى ارتفاع في ضغط الدم واحتباس السوائل نظرا لكميات الملح الكبيرة، وهي أصلا فقيرة بالقيمة الغذائية، فالسعرات فيها عالية، لكن البروتينات قليلة.
ويتابع: تحضير الدقة بتحميص الطحين وإضافة الأصباغ، أو خلطها بالعدس المطحون أو الحمص أو المعكرونة، يؤدي لمشاكل صحية، أبرزها التلبك المعوي، والتهابات المعدة، والقولون العصبي. هذه الإضافات تزيد الضرر في ظل الاعتماد المفرط عليها، خصوصًا مع الأطفال وكبار السن.
ويختم بقوله: تعرضها مكشوفة في البسطات، وسوء تخزينها، واستعمال بدائل رديئة، يجعلها محمّلة بالملوّثات المحمولة في الهواء، ما يزيد من خطر التسمم والأمراض المعوية.
في قطاع باتت فيه أبسط حقوق الإنسان مثل الطعام الآمن حلمًا، تستمر "الدقة" في أداء دورها القديم الجديد: وجبة الفقراء، وذاكرة الفلسطينيين الذين لا يزالون يقاومون الجوع، كما يقاومون الاحتلال.
ـــــ
م.د/ر.ح