غزة 12-9-2025 وفا- حسين نظير السنوار
ما إن تصدر قوات الاحتلال الإسرائيلي أوامر الإخلاء لمنطقة معينة في قطاع غزة، حتى تبدأ معها رحلة قاسية من المعاناة والذل للمواطنين الذين شملهم القرار، فغالبًا ما يجد هؤلاء أنفسهم بلا مأوى يأويهم، ولا وسيلة نقل تُعينهم على النزوح، ولا مال يكفي لتأمين المواصلات أو احتياجات الطريق، ولا خيمة تُنصب لاستقبالهم، ولا حتى واحدة يحملونها معهم.
في هذه الحالة، يصبح العراء والطرقات ملاذ النازحين الوحيد، ريثما يتمكن بعضهم، إن استطاع، من ترتيب أوضاعه وبناء خيمة متواضعة وحمام بسيط علّه يستر ما أمكن من خصوصيته بعيدًا عن أعين المارة.
وما إن يسمع المواطن خبر الإخلاء، حتى تتزاحم في ذهنه عشرات الأسئلة، تصطدم جميعها بعقبات كبيرة، في ظل ظروف اقتصادية شديدة القسوة، فيما باتت تكلفة النزوح باهظة، ولا تتناسب مع واقع الغالبية العظمى من المواطنين في قطاع غزة، الذين لا يملكون المال أو السيولة اللازمة.
وتقدر تكلفة النزوح من محافظة غزة إلى جنوب القطاع بنحو 2000 دولار، تشمل أجرة النقل، وثمن خيمة ومرفق صحي بسيط، وهذه التكلفة تعجز معظم العائلات عن تأمينها، ما يدفع الكثيرين لاتخاذ قرار البقاء مكرهين تحت القصف.
مؤخرًا، أصدرت قوات الاحتلال الإسرائيلي أوامر إخلاء قسري للمواطنين في محافظتي غزة وشمال القطاع، مطالبةً إياهم بالتوجه نحو محافظتي خان يونس والوسطى، اللتين تعانيان أصلاً من الاكتظاظ بمئات الآلاف من النازحين.
ورغم عدم وجود أماكن كافية لاستيعاب المزيد، تصر قوات الاحتلال على التضييق على المواطنين، وتجبرهم على النزوح قسرًا، بينما تستهدف منازلهم وممتلكاتهم بالقصف، في محاولة واضحة لاقتلاعهم من جذورهم وحرمانهم من أدنى مقومات الحياة.
ومنذ خرق الاحتلال اتفاق وقف إطلاق في منتصف آذار/ مارس الماضي، شهد قطاع غزة موجات نزوح جماعي غير مسبوقة، حيث يُقدَّر أن نحو 780,358 مواطنا نزحوا من مناطقهم حتى تاريخ 12 آب/ أغسطس.
ووفقًا للتقديرات، فإن أكثر من 1.9 مليون مواطن، أي ما يقارب 90% من سكان قطاع غزة، تعرضوا للنزوح الداخلي منذ بداية العدوان، ما يعكس حجم الكارثة الإنسانية التي يعيشها القطاع.
وفي الفترة ما بين 12 و20 آب/ أغسطس فقط، تم تسجيل نحو 16,800 حالة نزوح إضافية، غالبيتها من مدينة غزة، وتمثل هذه الحالات نحو 95% من عمليات النزوح الأخيرة، في مؤشر واضح على استمرار تدهور الوضع الإنساني وتصاعد الضغوط على المواطنين في المناطق المستهدفة.
يُشار إلى أن المعطيات المتوفرة على أرض الواقع تؤكد أن جنوب قطاع غزة غير قادر على استيعاب ما يقارب1.3 إلى 1.5 مليون نازح من محافظتي غزة والشمال.
فالمناطق الجنوبية تعاني أصلًا من نقص حاد في الخيام والمأوى والمرافق الأساسية، إلى جانب تهالك البنى التحتية نتيجة الحرب المستمرة. كما أن غياب الأراضي الفارغة يجعل من شبه المستحيل إقامة خيام جديدة أو إنشاء مساكن مؤقتة، ما يُفاقم من أزمة النزوح ويضع آلاف العائلات في مواجهة مصير مجهول دون أدنى مقومات الحياة.
ويسود رفض بين المواطنين في غزة وشمال القطاع لقرارات النزوح القسري، حيث يُفضّل كثيرون البقاء في مناطقهم رغم الخطر، على مواجهة مصير مجهول في الجنوب المزدحم والمفتقر لأدنى مقومات الحياة.
ويلجأ بعض المواطنين إلى الانتقال داخل مناطقهم من الأماكن شديدة الخطورة إلى مناطق يُعتقد أنها أقل خطرًا، خصوصًا غرب القطاع، إلا أن هذه المناطق أصبحت هي الأخرى هدفا مباشرا لقصف الاحتلال.
ويرفض غالبية المواطنين في غزة والشمال النزوح نحو الجنوب، لعدم ثقتهم بتاتًا بقوات الاحتلال الإسرائيلي، التي تلاحقهم أينما ذهبوا، حتى في المناطق التي تُصنَّف على أنها "إنسانية" بحسب تصريحات الاحتلال، والتي تحوّلت في الواقع إلى ساحات لمجازر وجرائم مروعة بحق المدنيين الأبرياء، إضافة لإدراكهم أنهم سيواجهون صعوبات جمة أبرزها انعدام وسائل النقل، وندرة الأماكن الصالحة للإيواء، وافتقار المناطق المكتظة إلى أبسط المرافق والخدمات، بما في ذلك المياه والصرف الصحي، ما يجعل قرار البقاء رغم القصف أقل قسوة من خوض معاناة النزوح المجهول.
وحملت منظمات مثل العفو الدولية ومحكمة العدل الدولية إسرائيل المسؤولية، لكون أوامر الإخلاء تشكل نزوحا قسريا مخالفا للقانون، ونددت بالحصار المفروض على القطاع، وقتْل المدنيين، واستخدام التجويع كأدوات للضغط على المواطنين.
أما وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" فقد حذرت من اكتظاظ الملاجئ، وأن الخدمات مثل الصحة والمياه والصرف الصحي على وشك الانهيار في بعض المناطق، إضافة لمحدوديّة الموارد مثل الغذاء والمأوى والرعاية الصحية، وأن وكالات الإغاثة تواجه صعوبات كبيرة في الوصول إلى الناس المحتاجين بسبب الحصار وأوامر التهجير.
وطالبت الأونروا بوقف التهجير القسري بوقف القصف وفتح ممرات إنسانية تسمح بإدخال المساعدات دون عوائق، مؤكدة أن هذا التهجير المتكرر خاصة إذا استمر قد يتحوّل إلى "نكبة ثانية" للسكان الفلسطينيين، إذ يُعاد تهجير الأجيال دون قدرة على الاستقرار أو العودة.
وقالت لقد آن الأوان للإرادة السياسية كي تنهي الحرب في غزة، وإن أكثر من 700 يوم من القصف والناس بلا أي مكان آمن يلجؤون إليه وكل يوم هو معاناة لا تنتهي من الخوف والدمار والنزوح القسري، ودعونا مرارًا وتكرارًا إلى وقف إطلاق النار ويجب أن تتوقف هذه الحرب.
وأضافت أن عددًا كبيرًا من الأطفال هجروا مرارًا وتكرارًا في أنحاء غزة منذ بدء الحرب، والأطفال بغزة يحاصرون في مساحات تتقلص باستمرار حيث أن نحو 90% من القطاع مناطق عسكرية إسرائيلية.
يشار إلى أنه وعلى مدار أيام العدوان التي زادت عن 715 يومًا أجبرت قوات الاحتلال وتحت تهديد الصواريخ والقصف والنار المواطنين من كافة محافظات القطاع على النزوح قسرًا والعيش في خيام لا ترتقي لمستوى العيش الآدمي.
ورغم عمليات النزوح، فإن صواريخ ونيران الطائرات والدبابات والمدافع الثقيلة ما زالت تلاحقهم وتقتل وتصيب منهم الآلاف، فلا مكان آمن ولا استقرار.
ـــــ
ح.س/ر.ح