غزة 15-3-2025 وفا- محمد دهمان
في لحظة واحدة، تبدلت حياة نور هاني سالم ديب (31 عاما) من أم تحضن ضحكات أطفالها الخمسة، إلى ناجية تحمل في قلبها وجع المجازر، وفي عينيها صورة لا تُمحى لدمارٍ لا يُوصف.
كانت نور تعيش في أبراج المقوسي بغزة، حيث امتلأت أيامها بالضحك والحب وسط عائلة كبيرة متماسكة، إلى أن جاء ذلك الاتصال المشؤوم يوم 15 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 من جيش الاحتلال الإسرائيلي، يأمرهم بإخلاء المنزل قبل القصف.
لم تكن تعلم أن ذلك سيكون وداعها الأخير لكل من تحب.
نزحت العائلة إلى بيت أقاربهم في الشيخ رضوان، بحثا عن الأمان، لكن الأمان كان وهما في مدينة تحولت إلى مسرح للإبادة. لأيام طويلة، حوصرت العائلة وسط القصف، بلا ماء أو طعام، تراقب الموت وهو يقترب دون أن تستطيع الفرار.
في 11 كانون الأول/ ديسمبر 2023، دوّى انفجار هائل، فُجّرت جدران البيت، وانقلبت الدنيا رأسًا على عقب. فتحت نور عينيها، ووجدت نفسها وسط الأنقاض. "كلهم استشهدوا.. كلهم استشهدوا!" الكلمات الأولى التي خرجت من فمها.
لم تجد زوجها حسام سالم (38 عامًا) وأطفالها الأربعة، معاذ (7 سنوات)، لانا (5 سنوات)، براء (3 سنوات)، والرضيع يحيى، الذين كانوا معها قبل لحظات فقط، وسمعت صوت ابنتها دانا البكر، كانت عالقة تحت الركام، تصرخ: "ماما طلعيني، ماما أنا هون!" حاولت نور إزالة الأحجار عن جسد طفلتها، فيما وجدت زوجها ينزف أمامها بلا حول ولا قوة.
"لم يكن هناك وقت للحزن، ولا فرصة للوداع، فالخطر لا يزال يحيط بنا، حملت ابنتي التي تهشمت قدماها ويدها، وساندت زوجي المصاب، وهربت تحت القصف إلى مدرسة الدحيان حيث كانت هناك نقطة طبية، لكن الأطباء أخبرونا أن زوجي قد يستشهد في أي لحظة بسبب إصابته البليغة، لم يكن وضع دانا أفضل، فقد لفّوا جروحها إسعافيًا دون صور أشعة أو أي رعاية متخصصة".
في حديث لمراسل "وفا"، قالت نور، والدموع تخنق صوتها، إن ابنتها دانا، التي كانت تبلغ من العمر 7 سنوات وتسعة أشهر عند الإصابة، ظلت تتألم في مستشفى الشفاء وسط الحصار، تصرخ ليلا بلا مسكن، بينما جسدها ينهشه الالتهاب والديدان. وبعد معاناة طويلة، حصلت نور على تحويلة إلى مستشفى المعمداني حيث أخبرها الأطباء أن بتر يد ابنتها اليمنى هو الحل الوحيد لإنقاذ حياتها.
تتابع نور حديثها: "دخلت دانا العملية، وبعد ساعة خرج ممرض يحمل يدها في كيس، وسألني: "أين أم دانا؟"، ثم ناولني الكيس قائلا: "خذي يد ابنتك وادفنيها!"، في تلك اللحظة، شعرت أنني فقدت آخر ما تبقى من روحي.
تضيف: "خرجت دانا من العملية فاقدة يدها اليمنى، وجسدها مثقل بالإصابات، لكنها لم تفقد إحساسها بالفاجعة. أول سؤال سألته بعد أن أفاقت من البنج: ماما، وين إيدي؟ فأجابتها ايدك سبقتك للجنة مع إخوتك".
رحلة الهروب الأخير
لم يترك الاحتلال لهم حتى فرصة لالتقاط الأنفاس، فمع اشتداد القصف على مستشفى المعمداني، اضطرت نور لحمل ابنتها المصابة على عربة يجرها حمار، والهروب بها تحت قصف الاحتلال وإطلاق النار، إلى مستشفى الشفاء. بقيت هناك 27 يوما أخرى، ترعى دانا وزوجها المصاب وحدها، بعدما فقدت كل أهل زوجها وأختها وزوجها وابنهما في المجزرة.
لم تكن دانا الوحيدة التي أصيبت بإصابات غيرت حياتها، فقد تعرض زوج نور، حسام سالم، لإصابات خطيرة أفقدته الرؤية في عينه اليسرى بعد أن أصابته شظايا في مركز الإبصار. كما أصيب بكسور في القفص الصدري، وتمزق في الرباط الصليبي لقدمِه اليسرى، إلى جانب شظايا استقرت في جسده ووجهه، تاركة أثرا دائما لمعاناته.
96 شهيدا.. و40 ما زالوا تحت الأنقاض
لم تكن عائلة نور وحدها من قضى في المجزرة، فقد استشهد ما يقارب 96 شخصا، منهم 40 شهيدا ما زالوا تحت الأنقاض، بينما تم انتشال ودفن أهل زوجها وأطفالها. وسط كل هذا الدمار، كان هناك عزاء واحد فقط: تمكن الناجون من دفن الشهداء بكرامة، رغم الألم والفقدان.
دانا
اليوم، تعيش نور في منزل أهل زوجها المدمر في منطقة النصر غرب محطة بهلول، بعد أن أعادت تأهيله بجهدها. لم يعد في حياتها سوى دانا، التي فقدت يدها، ورجلها المثقلة بالبلاتين، وذكريات أطفالها الذين رحلوا.
تحلم نور بأن تحصل دانا على العلاج المناسب في الخارج، فالحياة في غزة بعد المجازر لم تعد تصلح لمن يحمل في جسده جراحا لا يمكن علاجها، وفي قلبه ألم لا يُحتمل، قائلة: "كل ما أريده أن أسافر بدانا.. أن تعيش حياة تستحقها بعد كل ما فقدناه، أناشد الرئيس محمود عباس لمساعدتي في علاج بنتي دانا في الخارج".
ـــــــ
م.ع