أهم الاخبار
الرئيسية تقارير وتحقيقات
تاريخ النشر: 12/05/2025 09:10 م

وسط ركام الأبراج المدمرة.. "إشراقة أمل" مدرسة من خيام وصمود

 

غزة 12-5-2025 وفا- محمد دهمان

بين أنقاض الأبراج المدمرة في مدينة حمد غرب محافظة خان يونس، حيث لا ظلّ إلا لخراب الحرب ورائحة البارود، وحرارة الشمس تصهر البلاستيك الذي يعلو الخيام، هناك مدرسة تُدعى "إشراقة أمل". لم تولد من بنية تحتية جاهزة، بل من إرادة أناس قرروا أن يزرعوا العلم في أرضٍ غطاها الرماد.

مدينة حمد.. من نموذج عمراني إلى شاهد على المأساة

تقع مدينة حمد غرب مدينة خان يونس، وقد كانت واحدة من أحدث وأجمل المشاريع السكنية في قطاع غزة، أنشئت بتمويل من دولة قطر واحتضنت آلاف الأسر الباحثة عن الاستقرار. لكنها لم تنجُ من نيران الحرب، إذ تحوّلت أبراجها إلى أطلال، وانهار معظمها بفعل القصف الإسرائيلي العنيف الذي طال كل زاوية فيها، حتى باتت المدينة عنوانًا للنكبة الثانية، ومشهدًا يوميًا للحطام والوجع.

على ركام البيوت ووسط الرماد.. بزغ الأمل

وسط هذا الركام، وبين الأزقة الترابية التي كانت يومًا شوارع معبّدة، أُقيمت مدرسة "إشراقة أمل" داخل خيام بلاستيكية، لا تقي من حر الصيف ولا برد الشتاء. الخيام تهترئ يومًا بعد يوم، لكنها تحتضن حياة: حياة التعليم، وحياة من يرفضون الاستسلام.

أسامة الجزار.. من المبادرة إلى مؤسسة تعليمية

أسامة محمد الجزار، مدير المدرسة وصاحب فكرتها، وعضو مجلس مدينة حمد، يقول لمراسل "وفا":

"منذ بداية الحرب، كنا نؤمن أن التعليم لا يجوز أن يتوقف مهما كانت الظروف. بدأنا كمجلس مدينة ومجلس أولياء أمور بمبادرات بسيطة، ومع الوقت تحوّلت إلى مشروع حقيقي انطلق في أبريل 2024. وخططنا منذ البداية أن نكرّر مبادرة التوجيهي لهذا العام كما فعلنا العام الماضي."

ويضيف: "مدرسة إشراقة أمل قامت على تبرع كريم من رجل الأعمال نضال الرنتيسي، وهي غير ربحية وتخدم النازحين وسكان مدينة حمد. لدينا الآن 870 طالبًا من التمهيدي حتى الصف السادس، و36 معلمة مؤهلات جامعيات، و5 إداريين، جميعهم يعملون تطوعًا دون أي مقابل مادي."

تعب الأجساد ووجع الطفولة

يؤكد الجزار أن "أصعب ما نواجهه هو سوء تغذية الأطفال، إذ نسجل يوميًا حالات إغماء بين التلاميذ. أجسادهم هزيلة، وجيوب ذويهم فارغة، وبعض الأطفال يأتون إلى المدرسة دون أن يتناولوا شيئًا، ولا حتى قطعة خبز."

ويضيف: "حتى المعلمات تعرّضن لحالات إغماء بسبب الجوع، ما يعكس عمق الأزمة التي لا تطال الطلاب فقط، بل الجميع."

ريهام أبو الريش.. زوجة أسير وأم تُعلّم من قلب المحنة

ريهام، أم لخمسة أبناء، وزوجة أسير منذ مارس 2024، تسكن مدينة حمد وتطوّعت في المدرسة منذ نوفمبر من العام نفسه. تقول بصوت تختلط فيه المرارة بالعزيمة:

"بعد أسر زوجي، اضطررت للخروج من البيت لأرعى أطفالي وأواجه الحياة. رأيت الأطفال في الشوارع دون تعليم، فقررت أن أعلّمهم، وأدرّس أولادي بنفسي، خاصة أنني خريجة لغة إنجليزية."

تُدرّس ريهام الصفوف من التمهيدي وحتى الثالث الابتدائي، وتضيف:

"أشعر بالحزن حين أراهم في طوابير الماء والخبز، لكن حين يتعلّم أحدهم حرفًا جديدًا، أشعر أنني أزرع بذرة نور وسط الظلام."

سعاد الفران.. أم دفنت قلبها بين طفلين وعادت للتدريس

من أكثر الشهادات التي لا تُنسى، شهادة المعلمة سعاد نظمي الفران، التي فقدت اثنين من أبنائها دفعة واحدة في مارس 2025. تقول:

"تطوعت في نوفمبر 2024 بنيّة تعليم أطفال بلادي والتقرّب إلى الله بشفاء ابني أيمن، وكان كل شيء يسير رغم قسوة الظروف، حتى جاء اليوم الأسود حين استُشهد ابني أيمن (13 عامًا ونصف) وابنتي بيسان (9 سنوات ونصف) معًا في قصف غادر، وأصيبت بنتاي يارا وسارة بجروح". وتتابع بصوت متماسك يخفي نهرًا من الحزن:

"بعد رحيلهما انهار كل شيء بداخلي. توقفت عن التدريس، وكنت أبحث عن وجهيهما في كل طالب وطالبة. لكن زوجي وزميلاتي في المدرسة، وبناتي المصابات، قدّموا لي الدعم. واليوم، عدت لأستكمل ما بدأته، لأُعلّم أطفال الآخرين كأنهم أبنائي."

تغريد الداعور.. أرملة الحرب التي اختارت طريق النور

تغريد، أم لخمسة ابناء، فقدت زوجها في قصف عشوائي بشارع النخيل في مارس 2024. تروي الحادثة: "كان يوم جمعة، وأخته ضيفة لدينا. خرج ليشتري دجاجًا ولم يعد. استُشهد مع أربعة آخرين في قصف طال المدينة." التحقت بالمدرسة بعد أشهر قليلة، وتقول:

"أردت أن أجمع أطفال مدينة حمد تحت جناح التعليم بدلًا من تركهم في الشوارع. أردت أن أفرّغ حزني في شيء نافع، وربما أحصل في المستقبل على فرصة عمل تعينني على تربية أولادي. لكن الأهم من كل ذلك أنني أردت النجاة بنفسي من العتمة."

من خيمة إلى مدرسة.. ومن رماد إلى مستقبل

صبحية أبو الخير، إحدى القائمات على المدرسة، تقول لمراسل "وفا":

"نعمل بنظام الفترتين، كل واحدة مدتها ساعتان فقط، بسبب الحرارة المرتفعة والجوع، فلا قدرة للأطفال على البقاء لساعات طويلة. المدرسة تفتقر لأبسط مقومات الحياة: لا كهرباء، لا مقاعد، ولا حتى حمامات كافية، إذ يوجد حمام واحد فقط يخدم الجميع."

وتتابع: "تحاول بعض المؤسسات تقديم دعم نفسي للطلبة. لدينا عشرة طلاب من ذوي الاحتياجات الخاصة نسعى لدمجهم رغم كل التحديات. هذه المدرسة ليست مجرد مكان للتعليم، بل ملاذ إنساني ونفسي."

وتكشف الأرقام الصادرة عن إدارة المدرسة حجم المأساة التي تحتضنها هذه الخيام، إذ تضم:

54 طالبًا من أبناء الشهداء

19 من أبناء الأسرى

3 أطفال ناجين من مجازر أُبيدت فيها أسرهم بالكامل

10 معلمات فقدن أعزاء في العدوان

"إشراقة أمل".. اسم لا يكذب

في غزة، حيث الظلام أكثر من الضوء، تولد أحيانًا مدارس من رماد.

"إشراقة أمل" ليست مجرد خيام من البلاستيك، بل فكرة وُلدت من عزيمة، نبتت من قلوب أمهات ثكالى، وآباء مأسورين، وأطفال لا يعرفون من العالم إلا القصف والطوابير.. لكنهم يتعلّمون.

ــــــــ

/ ف.ع

 

مواضيع ذات صلة

اقرأ أيضا